فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإن التزام الدين عن إكراه لا يأتي بالغرض المطلوب من التّديّن وهو تزكية النفس وتكثير جند الحق والصلاح المطلوب.
والكاره مشتق من كره الذي مصدره الكَرهُ بفتح الكاف وسكون الراء وهو ضد المحبة، فكاره الشيء لا يدانيه إلاّ مغصوبًا ويقال للغصب إكراه، أي مُلجَئين ومغصوبين وتقدم في قوله تعالى: {كتب عليكم القتال وهو كُرهٌ لكم} في سورة البقرة (216).
و{لو} وصلية تفيد أن شرطها هو أقصى الأحوال التي يحصل معها الفعل الذي في جوابها، فيكون ما بعدها أحرى بالتعجب.
فالتقدير: أتعيدوننا إلى ملّتكم ولو كنا كارهين.
وقد تقدم تفصيل {لو} هذه عند قوله تعالى: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ولو افتدى به}.
في سورة آل عمران (91).
وتقدم معنى الواو الداخلة عليها وأنها واو الحال.
واستأنف مرتقيًا في الجواب، فبيّن استحالة عودهم إلى ملّة الكفر بأن العود إليها يستلزم كذبَه فيما بلّغه عن الله تعالى من إرساله إليهم بالتوحيد فذلك كذب على الله عن عمد، لأن الذي يرسله الله لا يرجع إلى الكفر، ويستلزم كذب الذين آمنوا به على الله حيث أيقنوا بأن شعيبًا مبعوث من الله بما دلهم على ذلك من الدلائل، ولذلك جاء بضمير المتكلّم المشارك في كل من قوله: {افترينا} و{عدنا} و{نجانا} و{نعود} و{ربُنا} و{توكّلنا}.
والربط بين الشرط وجوابه ربط التّبيّن والانكشاف.
لأنه لا يصح تعليق حصول الافتراء بالعود في ملة قومه، فإن الافتراء المفروض بهذا المعنى سابق متحقق وإنّما يكشفه رجوعهم إلى ملّة قومهم، أي إنْ يَقع عودنا في ملتكم فقد تبين أننا افترينا على الله كذبًا، فالماضي في قوله: {افترينا} ماض حقيقي كما يقتضيه دخول {قد} عليه، وتقديمه على الشرط لأنه في الحالتين لا تقلبه أن للاستقبال، أما الماضي الواقع شرطًا ل أن في قوله: {إن عدنا} فهو بمعنى المستقبل لأن أن تقلب الماضي للمستقبل عكس لم.
وقوله: {بعد إذ نجّانا الله منها} على هذا الوجه، معناه: بعد إذ هدانا الله للدين الحق الذي اتبعناه بالوحي فنجانا من الكفر، فذكر الإنجاء لدلالته على الإهداء والإعلان بأن مفارقة الكفر نجاة، فيكون في الكلام إيجاز حذف أو كناية.
وهذه البعدية ليست قيدًا ل {افترينا} ولا هي موجب كون العود في ملّتهم دالًا على كذبه في الرسالة، بل هذه البعدية متعلقة بـ {عُدْنَا} يقصد منها تفظيع هذا العود وتأييس الكافرين من عود شعيب وأتباعه إلى ملّة الكفر، بخلاف حالهم الأولى قبلَ الإيمان فإنهم يوصفون بالكفر لا بالافتراء إذ لم يظهر لهم وجه الحق، ولذلك عقبه بقوله: {وما يكون لنا أن نعود فيها} أي لأن ذلك لا يقصده العاقل فيلقي نفسه في الضلال والتعرض للعذاب.
وانتصاب {كذبًا} على المفعولية المطلقة تأكيدًا ل {افترينا} بنا هو ماسو له أو أعم منه، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى: {ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب} في سورة المائدة (103).
وقد رَتّب على مقدمة لزوم الافتراء نتيجةَ تأييس قومه من أن يعود المؤمنون إلى ملّة الكفر بقوله: {وما يكون لنا أن نعود فيها} فنفي العود نفيًا مؤكدًا بلام الجحود وقد تقدم بيان تأكيد النفي بلام الجحود في قوله تعالى: {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب} إلخ في سورة آل عمران (79).
وقوله: {إلاّ أن يشاء الله ربّنا} تأدب مع الله وتفويضُ أمره وأمرِ المؤمنين إليه، أي: إلاّ أن يقدّر الله لنا العود في ملّتكم فإنّه لا يسأل عمّا يفعل، فأمَا عود المؤمنين إلى الكفرِ فممكن في العقل حصوله وليس في الشرععِ استحَالته، والارتداد وقع في طوائف من أمم.
وأمّا ارتداد شعيب بعد النبوءَةِ فهو مستحيل شرعًا لعصمة الله للأنبياء، فلو شاء الله سلب العصمة عن أحد منهم لمَا ترتّب عليه محال عقلًا، ولكنه غير ممكن شرعًا، وقد علمتَ آنفًا عصمة الأنبياء من الشرك قبل النبوءة فعصمتهم منه بعد النبوءة بالأولى، قال تعالى: {لئن أشركت ليحبطَن عملك} [الزمر: 65] على أحد التأويلين.
وفي قول شعيب: {إلاّ أنْ يشاء الله ربّنا} تقييدُ عدم العود إلى الكفر بمشيئة الله، وهو يستلزم تقييد الدوام على الإيمان بمشيئة الله، لأن عدم العود إلى الكفر مساو للثبات على الإيمان، وهو تقييد مقصود منه التأدب وتفويض العلم بالمستقبل إلى الله، والكناية عن سؤال الدوام على الإيمان من الله تعالى كقوله: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} [آل عمران: 8].
ومن هنا يستدل لقول الأشعري وجماعةٍ على رأسهم محمد بن عبدوس الفقيه المالكي الجليل أن المسلم يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لأنّه لا يعلم ما يُختم له به، ويضعف قول الماتريدي وطائفةٍ من علماء القيروان على رأسهم محمد بن سحنون أن المسلم لا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لأنّه متحقق أنه مؤمن فلا يقول كلمة تنبىء عن الشك في إيمانه.
وقد تطاير شرر الخلاف بين ابن عبدوس وأصحابه من جهة، وابن سحنون وأصحابه من جهة، في القيروان زمانًا طويلًا ورمى كل فريق الفريق الآخر بما لا يليق بهما، وكان أصحاب ابن سحنون يدْعون ابنَ عبدوس وأصحابَه الشكوكية وتلقفت العامة بالقيسروان هذا الخلاف على غير فهم فربما اجْتروا على ابن عبدوس وأصحابة اجتراء وافتراء، كما ذكره مفصلًا عياض في المدارك في ترجمة محمد بن سحنون، وترجمة ابن النبّان، والذي حقّقه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد وعياض أن الخلاف لفظي: فإن كان يقول: إن شاء الله، وسريرتُه في الإيمان مثلُ علانيته فلا بأس بذلك، وإن كان شكًا فهو شك في الإيمان، وليس ذلك ما يريده ابن عبدوس، وقد قال المحققون: أن الخلاف بين الأشعري والماتريدي في هذه المسألة من الخلاف اللفظي، كما حقّقه تاج الدين السبكي في منظومته النونية، وتبعه تلميذه نور الدين الشيرازي في شرحه.
ومما يجب التنبيه له أن الخلاف في المسألة إنما هو مفروض في صحّة قول المؤمن: أنا مؤمن إن شاء الله، وأن قوله ذلك هل ينبئ عن شكه في إيمانه، وليس الخلاف في أنّه يجب عليه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله، عند القائلين بذلك، بدليل أنهم كثيرًا ما يقابلون قول القائلين بالمشيئة بقول الآخرين: أنا مؤمن عند الله، فرجعت المسألة إلى اختلاف النظر في حالة عقد القلب مع ما هو في علم الله من خاتمته، وبذلك سهل إرجاع الخلاف إلى الخلاف اللفظي.
والإتيان بوصف الرب وإضافتُه إلى ضمير المتكلم المشارَك: إظهار لحضرة الإطلاق، وتعريض بأن الله مولى الذين آمنوا.
والخلاف بيننا وبين المعتزلة في جواز مشيئة الله تعالى الكفرَ والمعاصي خلاف ناشيء عن الخلاف في تحقيق معنى المشيئة والإرادة، ولكلا الفريقين اصطلاح في ذلك يخالف اصطلاح الآخر، والمسألة طفيفة وإن هوّلها الفريقان، واصطلاحنا أسعد بالشريعة وأقرب إلى اللغة، والمسألة كلها من فروع مسألة التكليف وقدرة المكلف.
وقوله: {وسعَ ربنا كل شيء علْمًا} تفويض لعلم الله، أي إلاّ أن يشاء ذلك فهو أعلم بمراده منا، وإعادة وصف الربوبية إظهار في مقام الإضمار لزيادة إظهار وصفه بالربوبية، وتأكيد التعريض المتقدم، حتى يصير كالتصريح.
وانتصب {علمًا} على التمييز المحول عن الفاعل لقصد الإجمال ثم التفصيل للاهتمام.
وانتصب {كل شيء} على المفعول به ل {وَسعَ}، أي: وسع علم ربنا كل شيء.
والسعة: مستعملة مجازًا في الإحاطة بكل شيء لأن الشيء الواسع يكون أكثر إحاطة.
وفي هذه المجادلة إدماج تعليم بعض صفات الله لأتْباعه وغيرهم على عادة الخطباء في انتهاز الفرصة.
ثم أخبر بأنه ومَن تبعه قد توكلوا على الله، والتوكل: تفويض مباشرة صلاح المرء إلى غيره، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فإذا عزمت فتوكل على الله} في آل عمران (159)، وهذا تفويض يقتضي طلب الخير، أي: رجونا أن لا يسلبنا الإيمان الحق ولا يفسد خلق عقولنا وقلوبنا فلا نفتن ونضل، ورجونا أن يكفينا شر من يُضمر لنا شرًا وذلك شر الكفرة المضمر لهم، وهو الفتنة في الأهل بالإخراج، وفي الدين بالإكراه على إتباع الكفر.
وتقديم الجار والمجرور على فعل {توكلنا} لإفادة الاختصاص تحقيقًا لمعنى التوحيد ونبذ غير الله، ولمَا في قوله: {على الله توكلنا} من التفويض إليه في كفايتهم أمر أعدائهم، صرح بما يزيد ذلك بقوله: {ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق}.
وفسروا الفتح هنا بالقضاء والحكم، وقالوا: هو لغة أزد عمان من اليمن، أي احكم بيننا وبينهم، وهي مأخوذة من الفتح بمعنى النصر لأن العرب كانوا لا يتحاكمون لغير السيف، ويحسبون أن النصر حُكم الله للغالب على المغلوب.
وقوله: {وأنت خير الفاتحين} هو كقوله: {وهو خير الحاكمين} [الأعراف: 87]، أي وأنت خير الناصرين، وخير الحاكمين هو أفضل أهل هذا الوصف، وهو الذي يتحقق فيه كمال هذا الوصف فيما يقصد منه وفي فائدته بحيث لا يشتبه عليه الحق بالباطل ولا تروج عليه الترهات.
والحكام مراتب كثيرة، فتبين وجه التفضيل في قوله: {وهو خير الحاكمين} [الأعراف: 87] وكذلك القياس في قوله: {خير الناصرين} [آل عمران: 150] و{خير الماكرين} [آل عمران: 54] وقد تقدم في سورة آل عمران (150): {بل الله مولاكم وهو خير الناصرين}. اهـ.

.قال الشعراوي:

{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا}.
وقولهم: {قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ} أي أنهم يعلمون أن العودة إلى مثل هذه الملة لون من الكذب المتعمد على الله. لأن الكذب أن تقول كلامًا غير واقع، وتعلن قضية غير حقيقية ثم قلت على مقتضى علمك فهذا مطلق كذب. لكن إن كنت عارفًا بالحقيقة ثم قلت غيرها فهذا افتراء واختلاق وكذب. والذين آمنوا مع شعيب عليه السلام يعلمون أن الملة القديمة ملة باطلة، وهم قد شهدوا مع شعيب حلاوة الإِيمان بالله؛ لذلك رفضوا الكذب المتعمد على الله. ويقولون بعد ذلك: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله...} [الأعراف: 89].
قد عرفوا أن التكليف اختيار وهم قد اختاروا الإِيمان، وأقروا وأكدوا إيمانهم بأنه سبحانه له طلاقة القدرة، فقالوا: {إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله}. فمشيئته سبحانه فوق كل مشيئة. ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن قلوب بني آدم كلَّها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقَلْبٍ واحدٍ يصرفُه حيث شاء».
وألم يقل سيدنا إبراهيم وهو أبو الأنبياء والرسل: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام...} [إبراهيم: 35].
لم يقل: واجنبنا. بل قالها واضحة ودعا ربًّه أن يبعده وينأى به وببنيه أن يعبدوا الأصنام، لأنه يعلم طلاقة قدرته سبحانه. إذن فمن آمنوا مع شعيب احترموا طلاقة القدرة في الحق؛ لذلك قالوا: {وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ الله رَبُّنَا...} [الأعراف: 89].
ولكن الله لا يشاء لمعصوم أن يعود، وسبحانه يهدي من آمن بهداية الدلالة ويمده بالمزيد من هداية المعونة إلى الطريق المستقيم.
ويتابع أهل الإيمان مع شعيب. {... وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} [الأعراف: 89].
جاء قولهم: {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا} لأن خصومهم من الملأ بقوتهم وبجبروتهم قالوا لهم: انتم بين أمرين اثنين: إما أن تخرجوا من القرية، وإما أن تعودوا في ملتنا. وأعلن المؤمنون برسولهم شعيب: أن العود في الملة لا يكون إلا بالاختيار وقد اخترنا ألا نعود. إذن فليس أمامهم إلا الإخراج بالإجبار؛ لذلك توكل المؤمنون على الله ليتولاهم، ويمنع عنهم تسلط هؤلاء الكافرين. {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} [الأعراف: 89].